فشلت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في تقديم المسيحية الحقيقية للمجتمع الذي تعيش فيه، نتيجة معتقدات وتعاليم خاطئة تبنتها على مدى العصور والأجيال، وآمنت بها كمسلَّمات لا تفريط فيها، ولا يسمح بالاقتراب منها، أو حتى مناقشة مدى صحتها. فتوالت التأديبات على الأقباط منذ قرون بعيدة، وانخفض شأن كنيسة الأسكندرية على مستوى كنائس العالم، لا سيما في الأربعة عقود الماضية، وليس أدل على ذلك من المسلسلات التلفزيونية، والأفلام السينمائية، التي تناولت أهم خصوصيات الأسرة القبطية بطريقة أثارت احتجاج الأقباط، بالإضافة إلى الكتابات التي تتهم الكنيسة بالوثنية.
كما فشلت الكنيسة في القرون الأخيرة، أن تنجب لنا أثناسيوس آخر، ذلك الشاب النابه النابغ اللامع، ابن مصر المحروسة، الذي كان بمثابة الضوء الساطع وسط 318 شيخاً من الأساقفة المجتمعين في نيقية (325 للميلاد) والذين مال بعضهم إلى معتقد آريوس الهرطوقي، وكادت البدعة الآريوسية تنتشر في العالم، وتطيح بالأساس الذي بنيت عليه الكنيسة (متى 16: 16-18) لولا وقفته الشجاعة كالأسد مستنداً على أقوال الله المدونة في الكتاب المقدس، وذلك لتشبعه بالحق المعلن في العهد الجديد. لقد استطاع بحكمة إلهية أن يصيغ عبارت قانون الإيمان بتعبيرات غاية في الدقة تختص بعلاقة الابن بالآب، مثل تعبير "هوموأوسيوس"، ورفضه للتعبير المقدم من آريوس ومن بعض الحاضرين في نيقية وهو "هومي أوسيوس"، وهما تعبيران متقاربان في الشكل والنطق، ولكن ما أبعد الفارق بينهما، فالأول يتحدث عن وحدانية الابن مع الآب في الجوهر، وأنه من ذات جوهر الآب، والثاني يتحدث عن الابن أنه مشابه في الجوهر للآب.
فمن أين لهذا الشاب مثل هذه الحكمة؟
لقد استمد أثناسيوس حكمته من ذلك الشخص المكتوب عنه " الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ" (كولوسي 2: 3).
وأيضاً من كلمة الله المكتوب عنها: "تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيماً" (مزمور 19: 7).
فأين هم الشباب أمثال أثناسيوس؟
لا بل أقول أين هم الآباء من أمثال أثناسيوس من المدافعين عن الإيمان، الذي مكث ما يقرب من نصف قرن مدافعًا عن أهم بل وأخطر حقيقية إيمانية، بلا هوادة أو كلل، حتى قيل له: "العالم كله ضدك يا أثناسيوس"، فكانت مقولته المشهورة التي لن تنمحي من ذاكرة التاريخ والتي سجلت فيه بأحرف من نور، وبكل لغات العالم، إذ قال: "وأنا أيضاً ضد العالم".
لم ينافق أحدًا، ولم يداهن العالم، لم يُسيّس الدين ليحتفظ بكرسيه، ولم يجعل من نفسه نداً لرؤساء العالم، ولم يُدخل العالم إلى الكنيسة، لم يحضر محافل الذين هم من خارج تحت أي إدعاء أو حجة نبعها الفلسفة البشرية طبقًا لقول الكتاب: " أَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟" (2كو 6: 14)، وأيضًا طبقًا لما جاء في الدسقولية (تعاليم الرسل): "ليكن الأسقف غير محبًا للرئاسة ... ولا يمضي إلى أعياد الأمم"(1).
لم يحتسب لشئ ولم تكن نفسه ثمينه عنده، كان يطيع الله أكثر من الناس، لم يهب إنساناً، ولم يجبن أمام التيارات العاتية التي أثارتها الهرطقة الآريوسية ضده، والتي كانت تسري بين الناس وأساقفة العالم، كما تسرى النار في الهشيم.
وأحصر بحثي فيما يتعلق بكنيستي القبطية الأرثوذكسية التي نشأت فيها، لغيرتي الشديدة على الاحتفاظ بصورتها النقية، التي تتناغم مع تعاليم المسيح ورسله، وعدم زيغانها وراء التعاليم التي مصدرها ومنبعها الحكمة البشرية الصادرة عن عقل الإنسان الذي أفسدته الخطية، والتي يقول عنها الكتاب " لها حكاية حكمة بعبادة نافلة " (كولوسي 2: 23).
ومن عنوان هذا الكتاب يتضح الغرض، والمقصد المبارك من ورائه، وهو وضع العقيدة الأرثوذكسية تحت مجهر كلمة الله وفحصها، للتمسك بما جاء فيها من حق، ورفض ما لحق بها من باطل. الأمر الذي يسر ويسعد كل إنسان يتمتع بنعمة العقل، أمين يبغي مرضاة مَنْ أحبه وأسلم نفسه لأجله.
فالعقيدة الأرثوذكسية تُعلِّم بوحدانية الله، وأن الله الواحد استعلن في الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، وأعظم من علَّم عن وحدانية الله في الذات والجوهر، هو القديس أثناسيوس الذي لقب بحق بالرسولي.
والعقيدة الأرثوذكسية تُعلِّم بوحي الكتاب المقدس، وقد حفظت الكتاب المقدس في كافة العصور المظلمة التي مرت بها الكنيسة في مصر، وقد سفكت دماء طاهرة في سبيل ذلك.
فمثل هذه التعاليم إذا ما امتحنت تحت مجهر كلمة الله، سنجدها حق وصدق، ويجب التمسك بها.
ــــــــــــ
(1) الدسقولية أو تعاليم الرسل، الطبعة الثانية، 1940، الناشر مكتبة المحبة، ص 29.
لكن توجد عقائد أخرى، ينبغي أن تمتحن في ضوء كلمة الله، فليس الغرض من هذا الكتاب هو الحديث عن أشخاص، فاحترامي وتقديري ومحبتي لكل مَنْ يشغل منصبًا دينيًا لا سيما في كنيستي التي أعتز بها، والتي تربيت فيها، حيث تسلمت إيماني الأرثوذكسي من أجدادي، ومن الكلية الإكليركية، التي فضلت الإلتحاق بها (كان ذلك عام 1967)، عن الالتحاق بالجامعة، لعشقي الشديد في معرفة كل ما يختص بكنيستي القبطية العريقة، واعتبر هذا كان بقصد وحكمة إلهية عجيبة.
إن الدافع وراء هذا الكتاب هو محبتي الشديدة لإخوتي وآبائي الذين عشت بينهم، وتعلمت على أيديهم، وكانت لي شركة حلوة معهم، ولسان حالي ما قاله الرسول بولس عن إخوته اليهود الذين يدعوهم أنسبائه حسب الجسد، بعد أن اعترض المسيح حياته وغيّرها: " أَقُولُ الصِّدْقَ فِي الْمَسِيحِ لاَ أَكْذِبُ وَضَمِيرِي شَاهِدٌ لِي بِالرُّوحِ الْقُدُسِ: إِنَّ لِي حُزْناً عَظِيماً وَوَجَعاً فِي قَلْبِي لاَ يَنْقَطِعُ! فَإِنِّي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ أَكُونُ أَنَا نَفْسِي مَحْرُوماً مِنَ الْمَسِيحِ لأَجْلِ إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ الْجَسَد" (رومية 9: 1-3).ِ
إن بعد مرور ألفي عام على مجيء البشير مرقس لبلادنا المصرية، وبشارته في الأسكندرية بالإنجيل، ودخول بعض اليهود مع تقاليدهم، وبعض الوثنيين مع عوائدهم إلى المسيحية، وكذلك مرور الكنيسة بأحداث جسام من اضطهادات وإبادة جماعية في العصر الروماني مما عُرف في التاريخ بعصور الاستشهاد، واجتيازها في عصور حالكة الظلمة، فيها اندست تعاليم ومعتقدات غريبة عن الإنجيل وامتزجت بالتعاليم الصحيحة، وبمرور القرون باتت تلك المعتقادات وكأنها من تسليم الرسل، الأمر الذي ترسخ في ضمائر الكثيرين، فأمسى الاقتراب منها أو المساس بها، نوعًا من التعدي على المقدسات.
وباتت العقيدة الأرثوذكسية في حاجة إلى الغربلة، والتنقية مما شابها من عقائد وتعاليم هي غريبة عن تعاليم المسيح المدونة في الإنجيل، وكذلك غريبة عن تعاليم الرسل المدونة في رسائلهم الموحى بها، والتي بين أيدينا في الكتاب المقدس، ومن ثم تأخذ الكنيسة القبطية مكانتها ككنيسة كارزة بالإنجيل، يعمل الروح القدس في أبنائها بحرية، وبقوة، فيقيم لنا الأبطال المدافعين عن الإيمان، الذين يتميزون بالشجاعة لا بالجبن، وبالتقوى لا بالخبث والمكر، لسان حالهم: " يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ" (أعمال 5: 29).. أبطال إيمان لا يحتسبون لشيء، ولا تكون أنفسهم غالية عليهم حتى يتمموا بفرح سعيهم والخدمة التي قبلوها من الرب.
لقد أمست الكنيسة القبطية في حاجة ليس إلى رجل واحد مثل القديس أثناسيوس، بل إلى رجال كثيرين لديهم الشجاعة والتقوى والدراسات الكتابية العميقة، كي يقودوا الشعب القبطي في نهضة روحية مباركة.. رجال يدافعون عن الإيمان المُسلَّم مرة للقديسين بشجاعة، وأدب، دون استحياء.
إن الغرض من هذا الكتاب هو وضع العقيدة الأرثوذكسية الحالية، والتي تنادي بها الكنيسة القبطية، والتي يظن الشعب القبطي وقادته أنها من تسليم الرسل، تحت مجهر كلمة الله، وامتحانها، هل هي تعاليم لها مرجعيتها في تعاليم المسيح ورسله، أم هي تعاليم البشر المخالفة لتعاليم المسيح ورسله؟ مستندًا إلى قول الرسول بولس: "امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ" (تسالونيكي الأولى 5: 21)، وأيضًا قوله للقديسين في كورنثوس: "جَرِّبُوا أَنْفُسَكُمْ، هَلْ أَنْتُمْ فِي الإِيمَانِ؟ امْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ" (كورنثوس الثانية 13: 5).
سعيد هرمينا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق