الفصل الثاني
هل أسس المسيح النظام البابوي؟
عنوان هذا الفصل هو سؤال مطروح ليس فقط على كل مَنْ هم في دائرة هذا النظام، ولزامًا عليهم أن يجيبوا عنه أمام الله أولاً، وأمام ضمائرهم ثانيًا، وأخيرًا أمام تابعيهم، كما سبق القول، بل أيضًا على كل مسيحي له ضمير صالح أمام الله، أن يجيب عنه من كلمة الله.
إن كان حقًا الرب هو مؤسس النظام البابوي، فلابد أن يكون ذلك مُعلنًا في الإنجيل بعبارات واضحة وصريحة ومباشرة، مثلما كان الأمر مع نوح في بناء الفلك، فالرب هو الذي حدّد مواصفات الفلك من حيث نوع الخشب الذي يصنع منه الفلك، وكذلك الأبعاد ونوع الطلاء، وتقسيم الفلك من الداخل.. إلخ. كان أمر الرب لنوح:
«اِصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا مِنْ خَشَبِ جُفْرٍ. تَجْعَلُ الْفُلْكَ مَسَاكِنَ،
وَتَطْلِيهِ مِنْ دَاخِل وَمِنْ خَارِجٍ بِالْقَارِ.
وَهكَذَا تَصْنَعُهُ: ثَلاَثَ مِئَةِ ذِرَاعٍ يَكُونُ طُولُ الْفُلْكِ، وَخَمْسِينَ ذِرَاعًا عَرْضُهُ،
وَثَلاَثِينَ ذِرَاعًا ارْتِفَاعُهُ.
وَتَصْنَعُ كَوًّا لِلْفُلْكِ، وَتُكَمِّلُهُ إِلَى حَدِّ ذِرَاعٍ مِنْ فَوْقُ. وَتَضَعُ بَابَ الْفُلْكِ فِي جَانِبِهِ. مَسَاكِنَ سُفْلِيَّةً وَمُتَوَسِّطَةً وَعُلْوِيَّةً تَجْعَلُهُ» (تكوين 6: 14-16).
هل أطاع نوح الرب، أم استحسن موادًا أخرى، وأبعادًا أخرى، لبناء الفلك؟
إليك تقرير الروح القدس:
«فَفَعَلَ نُوحٌ حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرَهُ بِهِ اللهُ. هكَذَا فَعَلَ» (تكوين 6: 22).
وكذلك تعليمات الرب لموسى النبي في تأسيس خيمة الاجتماع لإقامة العبادة والخدمة التي بحسب فكر الله من نحو شعبه في القديم (انظر على سبيل المثال لا الحصر سفر الخروج الإصحاحات من 35 إلى 40، و سفر اللاويين الإصحاحات من 1إلى 4، وسفر العدد إصحاح 19).
هل أطاع موسى الرب، أم أنه أسس نظامًا حسب استحسانه الشخصي؟ يقول الكتاب:
«فَفَعَلَ مُوسَى بِحَسَبِ كُلِّ مَا أَمَرَهُ الرَّبُّ. هكَذَا فَعَلَ» (خروج 40: 16).
وترد عبارة «بِحَسَبِ كُلِّ مَا أَمَرَ الرَّبُّ» أكثر من مرّة (انظر خروج 36: 1؛ 39: 32، 42).
وبناء على ذلك، وجب على كل مؤمن حقيقي، له ضمير صالح أمام الله، وضع في قلبه طاعة الرب وكلمته المقدسة، أن يسأل نفسه: «هل كل ما يجري في كنيستي أو الطائفة التي أتبعها، من تعاليم، وطقوس ونُظم عبادة، هل حقًا هي «بِحَسَبِ كُلِّ مَا أَمَرَ الرَّبُّ»؟ أم هي نُظم وترتيبات وضعها البشر حسب استحسانهم الشخصي؟
إن كل الذين أعطوا لأنفسهم الحق بإدخال نُظم وطقوس وتعاليم وتقاليد لم يأمر بها الرب إلى داخل المسيحية - أيًّا كانت دوافعهم أو حُسن نواياهم - إنما بفعلتهم هذه اغتصبوا حقًا لم يخوّل لهم من صاحب الكنيسة وبانيها ومقتنيها بدمه الكريم، ومن ثمّ ارتفعوا بأفكارهم فوق أفكار الله، ونسبوا النقصان وعدم الكفاية للإعلان الإلهي في الكتاب المقدس، الموحى به من الله، والذي حوى كل مقاصد الله الأزلية من نحو البشر، من حيث خلاصهم، وترتيب عبادتهم له سواء في العهد القديم، أو في العهد الجديد.
إن الذين أرتأوا في أنفسهم أنهم أحكم من الله في إدارة كنيسته، إنما يشبهون «عُزَّة»
الذي قال عنه الكتاب:
«مَدَّ عُزَّةُ يَدَهُ إِلَى تَابُوتِ اللهِ وَأَمْسَكَهُ، لأَنَّ الثِّيرَانَ انْشَمَصَتْ» (2صموئيل 6: 6).
إن الحجة التي يمكن أن يقدمها عُزَّة ومن سلكوا نهجه، أن الثيران انشمصت، وأنه من المستحسن، بل من الواجب إمساك التابوت لئلا يقع. وإذا تتبعنا الكثير من النظم والتقاليد التي أدخلها مَنْ أقاموا أنفسهم أو أقامهم الناس أوصياء على شعب المسيح، ربما كانت بحجة الإمساك بالتابوت لأن الثيران انشمصت أي وضع نُظم وترتيبات لإحكام القبضة على الشعب المسكين. لكن مَنْ قال أن التابوت يوضع على عربة تجرها ثيران؟ أليس هو الاستحسان البشري؟
هل إمساك التابوت بحجة الثيران المنشمصة عفى «عُزَّة» من العقاب؟
يقول الكتاب:
«فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى عُزَّةَ، وَضَرَبَهُ اللهُ هُنَاكَ لأَجْلِ غَفَلِهِ،
فَمَاتَ هُنَاكَ لَدَى تَابُوتِ اللهِ» (2صموئيل 6: 7).
لماذا أمات الله عُزَّةَ رغم حُسن نيّته، وسلامة مقصده؟
ولنا أن نسأل، هل حسن النوايا كاف للإعفاء من العقوبة؟
إن الحكمة البشرية تقول: «إن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة».
لقد خالف «عُزَّةَ» تعليمات الرب، وهي أن التابوت لا يُمسك بالأيدي، وإنما يُحمل على الأكتاف (قابل الخروج 25: 14 مع سفر العدد 7: 9)، لذلك ضربه الله فمات على الفور.
وهكذا كانت العقوبة التي لحقت بابني هارون إذ خالفا أمر الرب، مكتوب:
«وَأَخَذَ ابْنَا هَارُونَ: نَادَابُ وَأَبِيهُو، كُلٌّ مِنْهُمَا مِجْمَرَتَهُ وَجَعَلاَ فِيهِمَا نَارًا وَوَضَعَا عَلَيْهَا بَخُورًا، وَقَرَّبَا أَمَامَ الرَّبِّ نَارًا غَرِيبَةً لَمْ يَأْمُرْهُمَا بِهَا» (لاويين 10: 1).
إن خطيئة ابني هارون أنهما قربا نارًا غريبة لم يأمر بها الرب.
ماذا كانت النتيجة؟
يقول الكتاب:
«فَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأَكَلَتْهُمَا، فَمَاتَا أَمَامَ الرَّبِّ» (لاويين 10: 2).
إن ما فعله «عُزَّة» و«نَادَابُ وَأَبِيهُو» يبدو في نظر الكثيرين أمر لا يستحق العقاب الصارم الذي أنزله الله بهم، ولكن صرامة الله هي درس لكل مَنْ يخوِّل لنفسه التصرف في أمور الله بخلاف ما أمر به الله في الكتاب المقدس.
إن كانت الكنيسة هي كنيسة الله، فكيف للبشر أن يتصرفوا من نحو كنيسته دون تصريح، أو تفويض منه؟ وكيف يضعوا أنظمة لم يأمرهم بها؟
* بما أن الرب هو باني الكنيسة حسب قوله: «أَبْني كَنِيسَتِي» (متى 16: 18)،
* وبما أن الرب هو الذي أحب الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، مكتوب: «أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا» (أفسس 5: 25)،
* وبما أن الرب هو رأسها المبارك «وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ» (كولوسي 1: 18)،
إذن لايمكن أن يُقام نظام يختص بها، إلا بأمر منه، وأي نظام يقام بخلاف ما أمر به الرب، يكون نظامًا متعديًا على الرب، ومغتصبًا لكنيسته التي اقتناها بدمه، والتي أحبها ووضع حياته من أجلها.
لنعود مرة أخرى إلى السؤال عنوان هذا الفصل:
«هل أسس المسيح النظام البابوي؟»
لنذهب إلى الإنجيل لنبحث عن إجابة في كلمة الله التي هي دستور كل مؤمن حقيقي.
في الإنجيل كما دونه الرسول متى، نرى دعوة الرب لتلاميذه، وأمر تكليفهم، والمهام التي اختارهم من أجلها. مكتوب:
« وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِيًا عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا:«هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ».
فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ. ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، فِي السَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا، فَدَعَاهُمَا. فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ» (متى 4: 18-22).
من هذا النص المقدس، نجد أن بطرس و أندراوس أخاه هما أول من دعاهم الرب لتبعيته «هَلُمَّ وَرَائِي»، وكان مرسوم تكليفهما للخدمة هو «فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ» أي رابحي نفوس.
وفي متى 10: 1- 10 نرى دعوة التلاميذ وعددهم والسلطان الممنوح لهم وأسمائهم، مكتوب:
«ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ وَأَمَّا أَسْمَاءُ الاثْنَيْ عَشَرَ رَسُولاً فَهِيَ هذِهِ:
اَلأَوَّلُ سِمْعَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسُ أَخُوهُ. يَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي، وَيُوحَنَّا أَخُوهُ. فِيلُبُّسُ، وَبَرْثُولَمَاوُسُ. تُومَا، وَمَتَّى الْعَشَّارُ. يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى، وَلَبَّاوُسُ الْمُلَقَّبُ تَدَّاوُسَ. سِمْعَانُ الْقَانَوِيُّ، وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذِي أَسْلَمَهُ هؤُلاَءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ. اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصًا. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا. لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا فِي مَنَاطِقِكُمْ،
وَلاَ مِزْوَدًا لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْنِ وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصًا،
لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِق طَعَامَهُ» (متى 10: 1-10).
فإذا افترضنا جدلاً أن الرب كان يقصد أن يؤسس نظامًا بابويًا لقال بصريح العبارة:
«ثُمَّ دَعَا البابوات المعظمين، أصحاب القداسة والغبطة الاثْنَيْ عَشَرَ»، بدلاً من:
«ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَر»َ.
أيضًا لقال الكتاب:
«وَأَمَّا أَسْمَاءُ البابوات المعظمين، أصحاب القداسة والغبطة الاثْنَيْ عَشَرَ فَهِيَ..»
بدلاً من: «وَأَمَّا أَسْمَاءُ الاثْنَيْ عَشَرَ رَسُولاً فَهِيَ..»،
ولكان تكليف الرب لهم هو:
«اقيموا كراسي بابوية (كاتدرائيات فخمة) في كل مكان تذهبون إليه، وكرّسوا مذابحها بدهنها بزيت الميرون، لتذبحوني عليها في كل مرّة تقيمون فيها القدّاس،
وتأكلون جسدي الحرفي، وتشربوا دمي الحرفي وأن تسودوا على الناس، كما يفعل رؤسا ء وملوك هذا العالم، وأن يسجد لكم تابعيكم، وأن يقبلوا أياديكم، ..
بدلاً من: «اكْرِزُوا»،
أو كما قال لبطرس وأندراوس أخيه «فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ» أي رابحي نفوس الناس.
ليس هناك تصريح أو تلميح نستدل منه على أن إرسالية الرب لتلاميذه، كانت لتأسيس نظام بابوي، والجلوس على كراسي في كاتدرائيات فخمة، وحمل صلبان من ذهب، ووضع التيجان المرصعة بالأحجار الكريمة على رؤوسهم، ولبس الثياب المطرزة والمزركشة ذات الألوان الصادمة للعين، وحمل العصي المغشاة بالذهب، والسكنى في القصور المؤثثة بأفخر الأثاث تحت مسميات مختلفة.. إلخ؟
أين قول الرب لتلاميذه: «لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا..» مما هو حادث في الأنظمة المسيحية الآن من اقتناء الذهب والفضة والقصور الفاخرة، وسائر مظاهر البذخ والترف..إلخ. بل رئاسة دويلة (الفاتيكان) داخل دولة (إيطاليا)؟
ألم يطع الرسول بطرس هذه الوصايا، بدليل قوله للمقعد الذي طلب صدقة:
«لَيْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ، وَلكِنِ الَّذِي لِي فَإِيَّاهُ أُعْطِيكَ:
بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ قُمْ وَامْشِ!» (أعمال 3: 6).
أيضًا في متى 28: 18- 20 نقرأ عن إرسالية الرب الثانية لتلاميذه «الأَحَدَ عَشَرَ» (متى 28: 16) حيث أن يهوذا الخائن كان قد مضى وشنق نفسه، يقول الكتاب: فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً:
«دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ.
لقد كان تكليف الرب لتلاميذه في إرساليتهم الأولى هي:
«إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ:
إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ..» (متى 10: 5 - 7).
وذلك بقصد التمهيد لكرازته وسط شعبه إسرائيل، حتى يكونوا بلا عذر..
أما إرسالية الرب الثانية لتلاميذه فهي إلى «جَمِيع الأُمَمِ»، وكان مرسوم التكليف هو:
«تَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ... وعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ».
وفي إنجيل مرقس 16: 15 يقول الرب لتلاميذه:
«اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا».
أي أن عمل الرسل حسب تكليف الرب لهم أن يكرزوا بالإنجيل، ويتلمذوا جميع الأمم ويعلموهم وصايا الرب، وليس تأسيس كراسي بابوية، وتدشين كاتدرائيات، وتكريس مذابح، وممارسات طقسية أفرغت المسيحية من جوهرها، الأمور التي هي ضد المسيحية الحقيقية.
أيضًا إذا افترضنا جدلاً أن غرض سيدنا العظيم تأسيس نظام بابوي، لكان في العالم اثنا عشر كرسيًا بابويًا حسب عدد تلاميذه الذين ليس من بينهم مرقس، وبناء على هذه الفرضية الجدلية لنا أن نسأل:
أين كرسي أندراوس الرسول أخو بطرس؟ وأين كرسي يعقوب بن زبدي؟
أين كرسي يوحنا أخو يعقوب؟ وأين كرسي فيلبس الرسول؟
أين كرسي برثولماوس الرسول؟ وأين كرسي توما الرسول؟
أين كرسي متى الرسول؟ وأين كرسي يعقوب بن حلفى؟
أين كرسي لباوس الملقب تداوس؟ وأين كرسي سمعان القانوي؟
وأين كرسي متياس الذي اختاره الرسل بدلاً عن يهوذا الخائن؟
ولنا أن نسأل أيضًا:
أين كرسي الرسول بولس الذي تعب كثيرًا في كرازته بإنجيل المسيح، والذي استخدمه الرب في كتابة أكثر من نصف أسفار العهد الجديد؟
أما كرسي بطرس المزعوم، فسوف يأتي الحديث عنه بالتفصيل إن كان حقًا قد أسس هذا الرسول نظامًا بابويًا أم لا؟
وكذلك سوف يأتي الحديث عن البشير مرقس بالتفصيل، إن كان حقًا هو ضمن السبعين الذين أرسلهم الرب «أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعًا أَنْ يَأْتِيَ» (لوقا 10: 1)، أم لا. وإن كان حقًا قد أتى إلى مصر للتبشير فيها، وأسس نظامًا بابويًا في الأسكندرية، أم لا؟
ومن الأمور التي تدعو للأسف والأسى والحزن الشديد، وهي كثيرة في المسيحية الإسمية، أن هناك اثنين من البابوات في مصر يجلسان الآن على كرسي مرقس المزعوم، أحدهما للروم الأرثوذكس والآخر للأقباط الأرثوذكس، فكيف يجلس اثنان من البابوات على كرسي واحد، وكل منهما يدّعي أنه خليفة مرقس الإنجيلي، فترتيب أحدهما 126 من سلسلة البابوات الذين نسبوا أنفسهم للكرسي المزعوم والآخر ترتيبه 118؟ ناهيك عن عدد آخر من البطاركة في مصر لطوائف أرثوذكسية أخرى مثل الأرمن، والسريان.. إلخ. أضف إلى هذا الجمهور من البطاركة، بطاركة الكاثوليك على مختلف مذاهبهم.. الكل ينسبون أنفسهم لكرسي هو من صُنع الخيال والوهم، ومرقس الإنجيلي منه براء.
فهل حقًا أقام مرقس الإنجيلي كل هذا العدد الغفير من البابوات والبطاركة وأجلسهم جميعًا على كرسي واحد؟
أم أن مرقس الإنجيلي لم يُقم أحدًا منهم على الإطلاق؟
هذه الأسئلة لبعث الحياة في عقول تيبّست وتكلّست وتوقفت عن التفكير، وإيقاظ ضمائر تغط في سبات عميق أقرب إلى الغيبوبة منه إلى النوم.
مما سبق يتضح بكل جلاء أن المسيح له المجد لم يؤسس نظامًا بابويًا لكنيسته التي أحبها واقتناها بدمه الكريم، ولم يأمر تلاميذه بتأسيس هذا النظام، بل حذّر تلاميذه من التمثل بأنظمة العالم، إذ قال لهم:
«أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَالْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ.
فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا،
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْدًا، كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (متى 20: 25-28).
إن هذا النص يحمل تحذيرًا من الرب لتلاميذه من التمثل بأنظمة العالم، وهو تحذير يصدم كل من أقاموا أنفسهم، أو أقامهم الناس، رؤساء على قطيع المسيح، إذ داسوا على قول الرب لتلاميذه: «فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ».
إن مبدأ رئاسة الرب على شعبه مبدأ ثابت سواء في العهد القديم أو في العهد الجديد، فعندما طلب الشعب القديم بإلحاح وإصرار وتصميم من صموئيل النبي أن يقيم لهم ملكًا مثل سائر الأمم، سَاءَ الأَمْرُ فِي عَيْنَيْ صَمُوئِيلَ إِذْ قَالُوا: «أَعْطِنَا مَلِكًا يَقْضِي لَنَا» (1صموئيل 8: 6). لكن الرب قال له:
«اسْمَعْ لِصَوْتِ الشَّعْبِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَ لَكَ،
لأَنَّهُمْ لَمْ يَرْفُضُوكَ أَنْتَ بَلْ إِيَّايَ رَفَضُوا حَتَّى لاَ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ» (1صموئيل 8: 7).
أليس هذا ما حدث في المسيحية الإسمية؟
ألم يرفض المسيحيون، الذين نحّوا الكتاب المقدس جانبًا وعظّموا التقاليد وقدسوها، رئاسة الرب عليهم، واختاروا أن يكون لهم رئيسًا من الناس، بدلاً من الرب، يصفقون له، ويهللون من حوله، ويرفعون من شأنه، وينافقونه ويطلقون عليه من الألقاب والصفات ما لاطاقة لمؤمن حقيقي أن يتحملها أو يقبلها، مثلما تفعل أنظمة العالم؟
أليس الذين يشغلون منصب الرئاسة في العالم المسيحي، يحتلون مكان الرب وسط شعبه، ويغتصبون مكانته كالسيد والرئيس؟
لكن ماذا عن الألقاب المنتشرة في العالم المسيحي التي أطلقت على هؤلاء الرؤساء، مثل سيدنا.. أبونا.. معلمنا.. (معلم الأجيال)... إلخ.
قال الرب لتلاميذه في متى 23: 8 - 11:
«وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي، لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ، وَأَنْتُمْ جَمِيعًا إِخْوَةٌ. وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَبًا عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ، لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ. وَأَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِمًا لَكُمْ».
لقد نهى الرب تلاميذه أن يدعوهم الناس بـ «سيدي»، كما نهاهم أن يدعوا لهم «أبًا» على الأرض، أيضًا نهاهم أن يدعوهم الناس «معلمين».
وإن كان هذا حديث الرب لتلاميذه، أفلا ينطبق على العاملين في كرم الرب - من المؤمنين (إن كانوا حقًا مؤمنين حقيقيين) - في كل زمان ومكان؟
إن المسيح لم يؤسس نظامًا بابويًا ولا نظامًا رئاسيًا لكنيسته، بل حذّر تلاميذه من ذلك، لأنه رأس الكنيسة الحي، القائم من بين الأموات، والجالس عن يمين العظمة في الأعالي:
والحاضر مع شعبه في كل زمان ومكان:
«وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (متى 28: 20).
والحاضر وسط شعبه حيثما اجتمعوا:
«لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي (إلى اسمي) فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ»
(متى 18: 20).
والسؤال المطروح، إذا كان الرب حاضرًا مع شعبه في كل زمان ومكان، وحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة إلى اسمه يكون في وسطهم، فمن الذي يجرؤ على رئاسة شعب الرب في حضور الرب نفسه بحسب وعده؟ ومن الذي يجرؤ على الادعاء بأنه خليفة الرب على الأرض؟
وعلى فرض أن الرب جاء ليجتمع بشعبه كما كان في أيام تجسده على الأرض، فأي الكنائس يدخل وهناك آلاف الكنائس والطوائف التي تختلف مع بعضها البعض في العقيدة والطقوس، والصلوات.. إلخ.؟
وإذا ما دخل كنيسة بابوية، فمن الذي سيجلس على كرسي الرئاسة، البابا أم المسيح؟
وإذا حضر الرب وكان البابوات ورؤساء الكنائس والطوائف في العالم أجمع حاضرين مع شعوبهم، فأي من هؤلاء البابوات أو رؤساء الكنائس أوالطوائف يتجرأ بأخذ مكان الرئاسة على تلك الشعوب في حضور الرب؟
ألا يخجل هؤلاء وأولئك بأخذ مكان رئاسة الرب على شعبه. أما الشعب فإلى أي من البابوات أو رؤساء الكنائس والطوائف التابعين لها يلتفت في حضور الرب؟
أي شرّ يرتكبه المسيحيون أن يقبلوا أن يكون لهم رأسَا أو رئيسَا للكنيسة بخلاف الرب له المجد، يلتفتون إليه، ويلتفون من حوله، ويتبعونه ويخضعون له.
ألا ينطبق على هؤلاء قول الرب عن شعبه في القديم:
«لأَنَّ شَعْبِي عَمِلَ شَرَّيْنِ: تَرَكُونِي أَنَا يَنْبُوعَ الْمِيَاهِ الْحَيَّةِ،
لِيَنْقُرُوا لأَنْفُسِهِمْ أَبْآرًا، أَبْآرًا مُشَقَّقَةً لاَ تَضْبُطُ مَاءً» (إرميا ٢: ١٣).
ليت كل من تجرأ واغتصب مكان الرب ومكانته كرئيس على شعبه، وقَبِل أن يتبوأ مركز الرئاسة على شعب المسيح، أن تدخل الرعدة والرهبة إلى قلبه، وأن يستيقظ ضميره إن كان ابنًا حقيقيًا لله، فيعطي المجد للرب، ويرفض كل ما خلعه عليه المنافقون المزوّرون من ألقاب وسلطة وسيادة، ويأخذ مكانه كالخادم الحقيقي للرب.. أن يكون خادمًا لا مخدومًا، متمثلاً بسيده الذي قال عن نفسه:
«أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ»
(متى 20: 28).
أسئلة عن الفصل الثاني
1- هل يحق لإنسان أيًا كان أن يتصرف فيما لا يملكه؟
2- هل من صلاحيات الوكيل أن يتخذ قرارات دون الرجوع إلى صاحب الشأن؟
3- هل فعل نوح حسب كل ما أمره به الله، أم أضاف وحذف من تعليمات الله له؟
4- هل فعل موسى بحسب كل ما أمره الرب، أم أنه صنع خيمة من خياله الشخصي؟
5- هل إمساك عزة للتابوت كان يستوجب القضاء عليه بالموت؟ ولماذا؟
6- هل خطيئة ابني هارون كانت تستوجب العقاب الذي أنزله الله بهما؟
7- هل أمر الرب تلاميذه بتأسيس النظام البابوي؟ ما هو الدليل الكتابي سواء أكانت الإجابة بالإيجاب أو بالنفي.
هل أسس المسيح النظام البابوي؟
عنوان هذا الفصل هو سؤال مطروح ليس فقط على كل مَنْ هم في دائرة هذا النظام، ولزامًا عليهم أن يجيبوا عنه أمام الله أولاً، وأمام ضمائرهم ثانيًا، وأخيرًا أمام تابعيهم، كما سبق القول، بل أيضًا على كل مسيحي له ضمير صالح أمام الله، أن يجيب عنه من كلمة الله.
إن كان حقًا الرب هو مؤسس النظام البابوي، فلابد أن يكون ذلك مُعلنًا في الإنجيل بعبارات واضحة وصريحة ومباشرة، مثلما كان الأمر مع نوح في بناء الفلك، فالرب هو الذي حدّد مواصفات الفلك من حيث نوع الخشب الذي يصنع منه الفلك، وكذلك الأبعاد ونوع الطلاء، وتقسيم الفلك من الداخل.. إلخ. كان أمر الرب لنوح:
«اِصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا مِنْ خَشَبِ جُفْرٍ. تَجْعَلُ الْفُلْكَ مَسَاكِنَ،
وَتَطْلِيهِ مِنْ دَاخِل وَمِنْ خَارِجٍ بِالْقَارِ.
وَهكَذَا تَصْنَعُهُ: ثَلاَثَ مِئَةِ ذِرَاعٍ يَكُونُ طُولُ الْفُلْكِ، وَخَمْسِينَ ذِرَاعًا عَرْضُهُ،
وَثَلاَثِينَ ذِرَاعًا ارْتِفَاعُهُ.
وَتَصْنَعُ كَوًّا لِلْفُلْكِ، وَتُكَمِّلُهُ إِلَى حَدِّ ذِرَاعٍ مِنْ فَوْقُ. وَتَضَعُ بَابَ الْفُلْكِ فِي جَانِبِهِ. مَسَاكِنَ سُفْلِيَّةً وَمُتَوَسِّطَةً وَعُلْوِيَّةً تَجْعَلُهُ» (تكوين 6: 14-16).
هل أطاع نوح الرب، أم استحسن موادًا أخرى، وأبعادًا أخرى، لبناء الفلك؟
إليك تقرير الروح القدس:
«فَفَعَلَ نُوحٌ حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرَهُ بِهِ اللهُ. هكَذَا فَعَلَ» (تكوين 6: 22).
وكذلك تعليمات الرب لموسى النبي في تأسيس خيمة الاجتماع لإقامة العبادة والخدمة التي بحسب فكر الله من نحو شعبه في القديم (انظر على سبيل المثال لا الحصر سفر الخروج الإصحاحات من 35 إلى 40، و سفر اللاويين الإصحاحات من 1إلى 4، وسفر العدد إصحاح 19).
هل أطاع موسى الرب، أم أنه أسس نظامًا حسب استحسانه الشخصي؟ يقول الكتاب:
«فَفَعَلَ مُوسَى بِحَسَبِ كُلِّ مَا أَمَرَهُ الرَّبُّ. هكَذَا فَعَلَ» (خروج 40: 16).
وترد عبارة «بِحَسَبِ كُلِّ مَا أَمَرَ الرَّبُّ» أكثر من مرّة (انظر خروج 36: 1؛ 39: 32، 42).
وبناء على ذلك، وجب على كل مؤمن حقيقي، له ضمير صالح أمام الله، وضع في قلبه طاعة الرب وكلمته المقدسة، أن يسأل نفسه: «هل كل ما يجري في كنيستي أو الطائفة التي أتبعها، من تعاليم، وطقوس ونُظم عبادة، هل حقًا هي «بِحَسَبِ كُلِّ مَا أَمَرَ الرَّبُّ»؟ أم هي نُظم وترتيبات وضعها البشر حسب استحسانهم الشخصي؟
إن كل الذين أعطوا لأنفسهم الحق بإدخال نُظم وطقوس وتعاليم وتقاليد لم يأمر بها الرب إلى داخل المسيحية - أيًّا كانت دوافعهم أو حُسن نواياهم - إنما بفعلتهم هذه اغتصبوا حقًا لم يخوّل لهم من صاحب الكنيسة وبانيها ومقتنيها بدمه الكريم، ومن ثمّ ارتفعوا بأفكارهم فوق أفكار الله، ونسبوا النقصان وعدم الكفاية للإعلان الإلهي في الكتاب المقدس، الموحى به من الله، والذي حوى كل مقاصد الله الأزلية من نحو البشر، من حيث خلاصهم، وترتيب عبادتهم له سواء في العهد القديم، أو في العهد الجديد.
إن الذين أرتأوا في أنفسهم أنهم أحكم من الله في إدارة كنيسته، إنما يشبهون «عُزَّة»
الذي قال عنه الكتاب:
«مَدَّ عُزَّةُ يَدَهُ إِلَى تَابُوتِ اللهِ وَأَمْسَكَهُ، لأَنَّ الثِّيرَانَ انْشَمَصَتْ» (2صموئيل 6: 6).
إن الحجة التي يمكن أن يقدمها عُزَّة ومن سلكوا نهجه، أن الثيران انشمصت، وأنه من المستحسن، بل من الواجب إمساك التابوت لئلا يقع. وإذا تتبعنا الكثير من النظم والتقاليد التي أدخلها مَنْ أقاموا أنفسهم أو أقامهم الناس أوصياء على شعب المسيح، ربما كانت بحجة الإمساك بالتابوت لأن الثيران انشمصت أي وضع نُظم وترتيبات لإحكام القبضة على الشعب المسكين. لكن مَنْ قال أن التابوت يوضع على عربة تجرها ثيران؟ أليس هو الاستحسان البشري؟
هل إمساك التابوت بحجة الثيران المنشمصة عفى «عُزَّة» من العقاب؟
يقول الكتاب:
«فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى عُزَّةَ، وَضَرَبَهُ اللهُ هُنَاكَ لأَجْلِ غَفَلِهِ،
فَمَاتَ هُنَاكَ لَدَى تَابُوتِ اللهِ» (2صموئيل 6: 7).
لماذا أمات الله عُزَّةَ رغم حُسن نيّته، وسلامة مقصده؟
ولنا أن نسأل، هل حسن النوايا كاف للإعفاء من العقوبة؟
إن الحكمة البشرية تقول: «إن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة».
لقد خالف «عُزَّةَ» تعليمات الرب، وهي أن التابوت لا يُمسك بالأيدي، وإنما يُحمل على الأكتاف (قابل الخروج 25: 14 مع سفر العدد 7: 9)، لذلك ضربه الله فمات على الفور.
وهكذا كانت العقوبة التي لحقت بابني هارون إذ خالفا أمر الرب، مكتوب:
«وَأَخَذَ ابْنَا هَارُونَ: نَادَابُ وَأَبِيهُو، كُلٌّ مِنْهُمَا مِجْمَرَتَهُ وَجَعَلاَ فِيهِمَا نَارًا وَوَضَعَا عَلَيْهَا بَخُورًا، وَقَرَّبَا أَمَامَ الرَّبِّ نَارًا غَرِيبَةً لَمْ يَأْمُرْهُمَا بِهَا» (لاويين 10: 1).
إن خطيئة ابني هارون أنهما قربا نارًا غريبة لم يأمر بها الرب.
ماذا كانت النتيجة؟
يقول الكتاب:
«فَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأَكَلَتْهُمَا، فَمَاتَا أَمَامَ الرَّبِّ» (لاويين 10: 2).
إن ما فعله «عُزَّة» و«نَادَابُ وَأَبِيهُو» يبدو في نظر الكثيرين أمر لا يستحق العقاب الصارم الذي أنزله الله بهم، ولكن صرامة الله هي درس لكل مَنْ يخوِّل لنفسه التصرف في أمور الله بخلاف ما أمر به الله في الكتاب المقدس.
إن كانت الكنيسة هي كنيسة الله، فكيف للبشر أن يتصرفوا من نحو كنيسته دون تصريح، أو تفويض منه؟ وكيف يضعوا أنظمة لم يأمرهم بها؟
* بما أن الرب هو باني الكنيسة حسب قوله: «أَبْني كَنِيسَتِي» (متى 16: 18)،
* وبما أن الرب هو الذي أحب الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، مكتوب: «أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا» (أفسس 5: 25)،
* وبما أن الرب هو رأسها المبارك «وَهُوَ رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ» (كولوسي 1: 18)،
إذن لايمكن أن يُقام نظام يختص بها، إلا بأمر منه، وأي نظام يقام بخلاف ما أمر به الرب، يكون نظامًا متعديًا على الرب، ومغتصبًا لكنيسته التي اقتناها بدمه، والتي أحبها ووضع حياته من أجلها.
لنعود مرة أخرى إلى السؤال عنوان هذا الفصل:
«هل أسس المسيح النظام البابوي؟»
لنذهب إلى الإنجيل لنبحث عن إجابة في كلمة الله التي هي دستور كل مؤمن حقيقي.
في الإنجيل كما دونه الرسول متى، نرى دعوة الرب لتلاميذه، وأمر تكليفهم، والمهام التي اختارهم من أجلها. مكتوب:
« وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِيًا عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا:«هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ».
فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ. ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، فِي السَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا، فَدَعَاهُمَا. فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ» (متى 4: 18-22).
من هذا النص المقدس، نجد أن بطرس و أندراوس أخاه هما أول من دعاهم الرب لتبعيته «هَلُمَّ وَرَائِي»، وكان مرسوم تكليفهما للخدمة هو «فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ» أي رابحي نفوس.
وفي متى 10: 1- 10 نرى دعوة التلاميذ وعددهم والسلطان الممنوح لهم وأسمائهم، مكتوب:
«ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ وَأَمَّا أَسْمَاءُ الاثْنَيْ عَشَرَ رَسُولاً فَهِيَ هذِهِ:
اَلأَوَّلُ سِمْعَانُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسُ أَخُوهُ. يَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي، وَيُوحَنَّا أَخُوهُ. فِيلُبُّسُ، وَبَرْثُولَمَاوُسُ. تُومَا، وَمَتَّى الْعَشَّارُ. يَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى، وَلَبَّاوُسُ الْمُلَقَّبُ تَدَّاوُسَ. سِمْعَانُ الْقَانَوِيُّ، وَيَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ الَّذِي أَسْلَمَهُ هؤُلاَءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ. اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصًا. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا. لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا فِي مَنَاطِقِكُمْ،
وَلاَ مِزْوَدًا لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْنِ وَلاَ أَحْذِيَةً وَلاَ عَصًا،
لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِق طَعَامَهُ» (متى 10: 1-10).
فإذا افترضنا جدلاً أن الرب كان يقصد أن يؤسس نظامًا بابويًا لقال بصريح العبارة:
«ثُمَّ دَعَا البابوات المعظمين، أصحاب القداسة والغبطة الاثْنَيْ عَشَرَ»، بدلاً من:
«ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَر»َ.
أيضًا لقال الكتاب:
«وَأَمَّا أَسْمَاءُ البابوات المعظمين، أصحاب القداسة والغبطة الاثْنَيْ عَشَرَ فَهِيَ..»
بدلاً من: «وَأَمَّا أَسْمَاءُ الاثْنَيْ عَشَرَ رَسُولاً فَهِيَ..»،
ولكان تكليف الرب لهم هو:
«اقيموا كراسي بابوية (كاتدرائيات فخمة) في كل مكان تذهبون إليه، وكرّسوا مذابحها بدهنها بزيت الميرون، لتذبحوني عليها في كل مرّة تقيمون فيها القدّاس،
وتأكلون جسدي الحرفي، وتشربوا دمي الحرفي وأن تسودوا على الناس، كما يفعل رؤسا ء وملوك هذا العالم، وأن يسجد لكم تابعيكم، وأن يقبلوا أياديكم، ..
بدلاً من: «اكْرِزُوا»،
أو كما قال لبطرس وأندراوس أخيه «فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ» أي رابحي نفوس الناس.
ليس هناك تصريح أو تلميح نستدل منه على أن إرسالية الرب لتلاميذه، كانت لتأسيس نظام بابوي، والجلوس على كراسي في كاتدرائيات فخمة، وحمل صلبان من ذهب، ووضع التيجان المرصعة بالأحجار الكريمة على رؤوسهم، ولبس الثياب المطرزة والمزركشة ذات الألوان الصادمة للعين، وحمل العصي المغشاة بالذهب، والسكنى في القصور المؤثثة بأفخر الأثاث تحت مسميات مختلفة.. إلخ؟
أين قول الرب لتلاميذه: «لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا..» مما هو حادث في الأنظمة المسيحية الآن من اقتناء الذهب والفضة والقصور الفاخرة، وسائر مظاهر البذخ والترف..إلخ. بل رئاسة دويلة (الفاتيكان) داخل دولة (إيطاليا)؟
ألم يطع الرسول بطرس هذه الوصايا، بدليل قوله للمقعد الذي طلب صدقة:
«لَيْسَ لِي فِضَّةٌ وَلاَ ذَهَبٌ، وَلكِنِ الَّذِي لِي فَإِيَّاهُ أُعْطِيكَ:
بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ قُمْ وَامْشِ!» (أعمال 3: 6).
أيضًا في متى 28: 18- 20 نقرأ عن إرسالية الرب الثانية لتلاميذه «الأَحَدَ عَشَرَ» (متى 28: 16) حيث أن يهوذا الخائن كان قد مضى وشنق نفسه، يقول الكتاب: فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً:
«دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ.
لقد كان تكليف الرب لتلاميذه في إرساليتهم الأولى هي:
«إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ. وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ:
إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ..» (متى 10: 5 - 7).
وذلك بقصد التمهيد لكرازته وسط شعبه إسرائيل، حتى يكونوا بلا عذر..
أما إرسالية الرب الثانية لتلاميذه فهي إلى «جَمِيع الأُمَمِ»، وكان مرسوم التكليف هو:
«تَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ... وعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ».
وفي إنجيل مرقس 16: 15 يقول الرب لتلاميذه:
«اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا».
أي أن عمل الرسل حسب تكليف الرب لهم أن يكرزوا بالإنجيل، ويتلمذوا جميع الأمم ويعلموهم وصايا الرب، وليس تأسيس كراسي بابوية، وتدشين كاتدرائيات، وتكريس مذابح، وممارسات طقسية أفرغت المسيحية من جوهرها، الأمور التي هي ضد المسيحية الحقيقية.
أيضًا إذا افترضنا جدلاً أن غرض سيدنا العظيم تأسيس نظام بابوي، لكان في العالم اثنا عشر كرسيًا بابويًا حسب عدد تلاميذه الذين ليس من بينهم مرقس، وبناء على هذه الفرضية الجدلية لنا أن نسأل:
أين كرسي أندراوس الرسول أخو بطرس؟ وأين كرسي يعقوب بن زبدي؟
أين كرسي يوحنا أخو يعقوب؟ وأين كرسي فيلبس الرسول؟
أين كرسي برثولماوس الرسول؟ وأين كرسي توما الرسول؟
أين كرسي متى الرسول؟ وأين كرسي يعقوب بن حلفى؟
أين كرسي لباوس الملقب تداوس؟ وأين كرسي سمعان القانوي؟
وأين كرسي متياس الذي اختاره الرسل بدلاً عن يهوذا الخائن؟
ولنا أن نسأل أيضًا:
أين كرسي الرسول بولس الذي تعب كثيرًا في كرازته بإنجيل المسيح، والذي استخدمه الرب في كتابة أكثر من نصف أسفار العهد الجديد؟
أما كرسي بطرس المزعوم، فسوف يأتي الحديث عنه بالتفصيل إن كان حقًا قد أسس هذا الرسول نظامًا بابويًا أم لا؟
وكذلك سوف يأتي الحديث عن البشير مرقس بالتفصيل، إن كان حقًا هو ضمن السبعين الذين أرسلهم الرب «أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعًا أَنْ يَأْتِيَ» (لوقا 10: 1)، أم لا. وإن كان حقًا قد أتى إلى مصر للتبشير فيها، وأسس نظامًا بابويًا في الأسكندرية، أم لا؟
ومن الأمور التي تدعو للأسف والأسى والحزن الشديد، وهي كثيرة في المسيحية الإسمية، أن هناك اثنين من البابوات في مصر يجلسان الآن على كرسي مرقس المزعوم، أحدهما للروم الأرثوذكس والآخر للأقباط الأرثوذكس، فكيف يجلس اثنان من البابوات على كرسي واحد، وكل منهما يدّعي أنه خليفة مرقس الإنجيلي، فترتيب أحدهما 126 من سلسلة البابوات الذين نسبوا أنفسهم للكرسي المزعوم والآخر ترتيبه 118؟ ناهيك عن عدد آخر من البطاركة في مصر لطوائف أرثوذكسية أخرى مثل الأرمن، والسريان.. إلخ. أضف إلى هذا الجمهور من البطاركة، بطاركة الكاثوليك على مختلف مذاهبهم.. الكل ينسبون أنفسهم لكرسي هو من صُنع الخيال والوهم، ومرقس الإنجيلي منه براء.
فهل حقًا أقام مرقس الإنجيلي كل هذا العدد الغفير من البابوات والبطاركة وأجلسهم جميعًا على كرسي واحد؟
أم أن مرقس الإنجيلي لم يُقم أحدًا منهم على الإطلاق؟
هذه الأسئلة لبعث الحياة في عقول تيبّست وتكلّست وتوقفت عن التفكير، وإيقاظ ضمائر تغط في سبات عميق أقرب إلى الغيبوبة منه إلى النوم.
مما سبق يتضح بكل جلاء أن المسيح له المجد لم يؤسس نظامًا بابويًا لكنيسته التي أحبها واقتناها بدمه الكريم، ولم يأمر تلاميذه بتأسيس هذا النظام، بل حذّر تلاميذه من التمثل بأنظمة العالم، إذ قال لهم:
«أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَالْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ.
فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا،
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْدًا، كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (متى 20: 25-28).
إن هذا النص يحمل تحذيرًا من الرب لتلاميذه من التمثل بأنظمة العالم، وهو تحذير يصدم كل من أقاموا أنفسهم، أو أقامهم الناس، رؤساء على قطيع المسيح، إذ داسوا على قول الرب لتلاميذه: «فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ».
إن مبدأ رئاسة الرب على شعبه مبدأ ثابت سواء في العهد القديم أو في العهد الجديد، فعندما طلب الشعب القديم بإلحاح وإصرار وتصميم من صموئيل النبي أن يقيم لهم ملكًا مثل سائر الأمم، سَاءَ الأَمْرُ فِي عَيْنَيْ صَمُوئِيلَ إِذْ قَالُوا: «أَعْطِنَا مَلِكًا يَقْضِي لَنَا» (1صموئيل 8: 6). لكن الرب قال له:
«اسْمَعْ لِصَوْتِ الشَّعْبِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَ لَكَ،
لأَنَّهُمْ لَمْ يَرْفُضُوكَ أَنْتَ بَلْ إِيَّايَ رَفَضُوا حَتَّى لاَ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ» (1صموئيل 8: 7).
أليس هذا ما حدث في المسيحية الإسمية؟
ألم يرفض المسيحيون، الذين نحّوا الكتاب المقدس جانبًا وعظّموا التقاليد وقدسوها، رئاسة الرب عليهم، واختاروا أن يكون لهم رئيسًا من الناس، بدلاً من الرب، يصفقون له، ويهللون من حوله، ويرفعون من شأنه، وينافقونه ويطلقون عليه من الألقاب والصفات ما لاطاقة لمؤمن حقيقي أن يتحملها أو يقبلها، مثلما تفعل أنظمة العالم؟
أليس الذين يشغلون منصب الرئاسة في العالم المسيحي، يحتلون مكان الرب وسط شعبه، ويغتصبون مكانته كالسيد والرئيس؟
لكن ماذا عن الألقاب المنتشرة في العالم المسيحي التي أطلقت على هؤلاء الرؤساء، مثل سيدنا.. أبونا.. معلمنا.. (معلم الأجيال)... إلخ.
قال الرب لتلاميذه في متى 23: 8 - 11:
«وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي، لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ، وَأَنْتُمْ جَمِيعًا إِخْوَةٌ. وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَبًا عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ، لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ. وَأَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِمًا لَكُمْ».
لقد نهى الرب تلاميذه أن يدعوهم الناس بـ «سيدي»، كما نهاهم أن يدعوا لهم «أبًا» على الأرض، أيضًا نهاهم أن يدعوهم الناس «معلمين».
وإن كان هذا حديث الرب لتلاميذه، أفلا ينطبق على العاملين في كرم الرب - من المؤمنين (إن كانوا حقًا مؤمنين حقيقيين) - في كل زمان ومكان؟
إن المسيح لم يؤسس نظامًا بابويًا ولا نظامًا رئاسيًا لكنيسته، بل حذّر تلاميذه من ذلك، لأنه رأس الكنيسة الحي، القائم من بين الأموات، والجالس عن يمين العظمة في الأعالي:
والحاضر مع شعبه في كل زمان ومكان:
«وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (متى 28: 20).
والحاضر وسط شعبه حيثما اجتمعوا:
«لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي (إلى اسمي) فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ»
(متى 18: 20).
والسؤال المطروح، إذا كان الرب حاضرًا مع شعبه في كل زمان ومكان، وحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة إلى اسمه يكون في وسطهم، فمن الذي يجرؤ على رئاسة شعب الرب في حضور الرب نفسه بحسب وعده؟ ومن الذي يجرؤ على الادعاء بأنه خليفة الرب على الأرض؟
وعلى فرض أن الرب جاء ليجتمع بشعبه كما كان في أيام تجسده على الأرض، فأي الكنائس يدخل وهناك آلاف الكنائس والطوائف التي تختلف مع بعضها البعض في العقيدة والطقوس، والصلوات.. إلخ.؟
وإذا ما دخل كنيسة بابوية، فمن الذي سيجلس على كرسي الرئاسة، البابا أم المسيح؟
وإذا حضر الرب وكان البابوات ورؤساء الكنائس والطوائف في العالم أجمع حاضرين مع شعوبهم، فأي من هؤلاء البابوات أو رؤساء الكنائس أوالطوائف يتجرأ بأخذ مكان الرئاسة على تلك الشعوب في حضور الرب؟
ألا يخجل هؤلاء وأولئك بأخذ مكان رئاسة الرب على شعبه. أما الشعب فإلى أي من البابوات أو رؤساء الكنائس والطوائف التابعين لها يلتفت في حضور الرب؟
أي شرّ يرتكبه المسيحيون أن يقبلوا أن يكون لهم رأسَا أو رئيسَا للكنيسة بخلاف الرب له المجد، يلتفتون إليه، ويلتفون من حوله، ويتبعونه ويخضعون له.
ألا ينطبق على هؤلاء قول الرب عن شعبه في القديم:
«لأَنَّ شَعْبِي عَمِلَ شَرَّيْنِ: تَرَكُونِي أَنَا يَنْبُوعَ الْمِيَاهِ الْحَيَّةِ،
لِيَنْقُرُوا لأَنْفُسِهِمْ أَبْآرًا، أَبْآرًا مُشَقَّقَةً لاَ تَضْبُطُ مَاءً» (إرميا ٢: ١٣).
ليت كل من تجرأ واغتصب مكان الرب ومكانته كرئيس على شعبه، وقَبِل أن يتبوأ مركز الرئاسة على شعب المسيح، أن تدخل الرعدة والرهبة إلى قلبه، وأن يستيقظ ضميره إن كان ابنًا حقيقيًا لله، فيعطي المجد للرب، ويرفض كل ما خلعه عليه المنافقون المزوّرون من ألقاب وسلطة وسيادة، ويأخذ مكانه كالخادم الحقيقي للرب.. أن يكون خادمًا لا مخدومًا، متمثلاً بسيده الذي قال عن نفسه:
«أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ»
(متى 20: 28).
أسئلة عن الفصل الثاني
1- هل يحق لإنسان أيًا كان أن يتصرف فيما لا يملكه؟
2- هل من صلاحيات الوكيل أن يتخذ قرارات دون الرجوع إلى صاحب الشأن؟
3- هل فعل نوح حسب كل ما أمره به الله، أم أضاف وحذف من تعليمات الله له؟
4- هل فعل موسى بحسب كل ما أمره الرب، أم أنه صنع خيمة من خياله الشخصي؟
5- هل إمساك عزة للتابوت كان يستوجب القضاء عليه بالموت؟ ولماذا؟
6- هل خطيئة ابني هارون كانت تستوجب العقاب الذي أنزله الله بهما؟
7- هل أمر الرب تلاميذه بتأسيس النظام البابوي؟ ما هو الدليل الكتابي سواء أكانت الإجابة بالإيجاب أو بالنفي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق